لماذا لا تطبع الدول الأموال وتحل مشكلة الفقر وتسدد ديونها؟

لعلك سألت نفسك يوما لماذا لا تطبع الدول النقود ونقضي على مشكلة الفقر ونصبح جميعا أغنياء، ليس هذا وحسب بل ويمكننا أن نسدد ديوننا ولا نعاني من تحكم الدول الكبرى وتدخلها في شؤون بلادنا، و... مهلا مهلا يا صديقي قبل أن تسحبك الأحلام الوردية إلى هذا التفكير دعني اخبرك بأن تلك الفكرة قد راودت الآلاف غيرك بل وراودت أيضا بعض الدول التي ظنت أنها ستحل كل مشكلاتها المالية والاقتصادية بتلك الطريقة لكن النتيجة كانت كارثية، لتفهم الموضوع اكثر في السطور القادمة سنجيب على السؤال الذي يشغل أذهاننا جميعا وهو لماذا لا تطبع الدول النقود ونصير جميعا أغنياء، وذلك بأسلوب مبسط وثلاث بعيدا عن التعقيدات الاقتصادية.

تاريخ صناعة النقود الورقية

قبل أن نتحدث عن طباعة النقود؛ نلقي نظرة سريعة على تاريخ التعامل النقدي، ذكرت شابوروخ كوسيمبا أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية أن التعاملات المادية بين الناس كان يتم من خلال ما عرف بالمقايضة أي التبادل المباشر بين الطرفين للسلع المطلوبة، قبل أن يأتي المال ليحل محل تلك الطريقة البدائية، وقد تطور شكل المال على مدى آلاف السنين، بداية من الأشياء الطبيعية إلى النقود المعدنية إلى العملات الورقية إلى الأموال الرقمية لتستخدم تلك الأشياء كوسيلة للتبادل وطريقة للدفع ومعيار للقيمة ومخزن للثروة ووحدة للحساب، برزت الخامات التي يعتبر وجودها نادرا في الطبيعة والتي يمكن التحكم في تداولها بكفاءة بوصفها وحدات قيمة للتفاعل والتبادل، وهذه تشمل القواقع مثل أصداف اللؤلؤ التي انتشرت على نطاق واسع في الأمريكيتين وأصداف الودع التي استخدمت في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأستراليا، كما استخدم النحاس والعنبر والسبج والحديد والفخار وسبائك الرصاص والخرز والذهب والفضة كعملات حتى الحيوانات الحية مثل الأبقار استخدمت كشكل من أشكال العملة، وخدمت بالفعل المجتمعات الرعوية بنجاح، لكنها ليست سهلة النقل إلى جانب أنها معرضة للكوارث البيئية، ثم ظهرت النقود أخيرا وذلك عندما نشأ الشيجال في بلاد الرافدين منذ ما يقرب من 5000 عام، وهو أول شكل معروف للعملة، أما عن أقدم العملات المعروفة فهي ترجع إلى عام 650، وعام 600 قبل الميلاد في آسيا الصغرى حيث استخدمت النخبة في كل من مملكة ليديا ومملكة أيونيا العملات الذهبية والفضية المسكوكة لدفع رواتب الجيش, ثم كان الاعتراف بالعملات النقدية كوسيلة من السلع الأساسية في بداية الألفية الأولى للميلاد, يمكن القول إن عملات النقد يعود نجاحها إلى حد كبير إلى قابليتها للنقل وقوات تحملها وسهولة حملها, كما أنها تسهل التبادل وتقرب بين المجتمعات المتباينة وترسخ الطبقات الاجتماعية إلى جانب أنه يمكن للقادة السياسيين السيطرة على إنتاج القطع النقدية، فضلا عن سهولة تداولها واستخدامها، وسرعان ما أصبحت الأموال أداة للسيطرة السياسية ووسيلة تمكن من فرض الضرائب لدعم النخبة والإنفاق على الجيوش. 

لماذا لا تطبع الدول الأموال وتحل مشكلة الفقر؟

أضيف إلى ذلك فإن الأموال تعمل أيضا كقوة داعمة للاستقرار عن طريق تشجيع التبادل السلمي للسلع والمعلومات والخدمات داخل المجموعات المختلفة وبين المجموعات وبعضها؛ لأن الأموال أداة لإثبات نفوذ الدولة، فقد كان على الدولة أن تجد وسيلة تمكنها من طباعة النقود والسيطرة عليها دون الإضرار باقتصادها، إذ إن المال من الناحية الاقتصادية يجب أن يتناسب دخل العملات النقدية في السوق من طرف الدولة مع حجم الإقتصاد ومع حجم الإنتاج المحلي. وهذا يعني أن كل وحدة نقدية مطبوعة لابد أن يقابلها رصيد من احتياطي النقد الأجنبي أو رصيد ذهبي أو سلع وخدمات حقيقية يتم إنتاجها في المجتمع حتى تكون النقود المتداولة في سوق ذات قيمة حقيقية وليست مجرد أوراق مطبوعة، فالنقود مثل أي سلعة أخرى تطبق عليها قوانين الاقتصاد الأساسية وقواعد العرض والطلب، وهذا يعني أن سعر السلع والخدمات تحدد عن طريق آلية العرض والطلب، فكلما زاد العرض لسلعة معينة سيقل سعر السلعة لأن الكمية الموجودة في سوق زائدة عن الحاجة وتغطي طلبات الأفراد، هذا بفرض أن الطلب ثابت وهناك فائض أكثر من الحاجة، الأمر الذي يدفع المنتجين إلى تقليل أسعار منتجاتهم كاستراتيجية للتسويق وطريقة لتحفيز الأفراد على شراء كميات أكبر، والعكس صحيح فكلما قل العرض لسلعة معينة سيرتفع سعرها لأن الكمية المعروضة قليلة لا تلبي احتياجات الأفراد، لذلك يدفع الأفراد الراغبين بهذه السلعة مبالغ أكبر من السعر السابق للحصول على السلعة قبل نفاذ الكمية، لكن وفي حال إقامة الدولة بضخ عملات نقدية أكبر من حجم الإقتصاد ستقل القيمة الشرائية للعملة وترتفع الأسعار بشكل جنوني ليرتفع معها التضخم وتصل الدولة لحالة من اللااستقرار الذي يجرها إلى الانهيار الاقتصادي،  وتنهار معه البنية الاجتماعية وباقي القطاعات.

هذا يعني أن طباعة النقود من قبل البنك المركزي ليست سهلة، بل هي عملية فنية معقدة اقتصاديا، ففي حالة طباعة نقود دون أن يكون لها غطاء سيؤدي ذلك إلى نتيجة أساسية واحدة وهي ارتفاع الأسعار، حيث يزيد المعروض النقدي دون أن يقابله زيادة موازية في السلع والخدمات، ونتيجة لذلك يفقد الناس الثقة في العملة المحلية ومن ثم يقومون بالتخلص مما لديهم من هذه العملة وشراء عملات أجنبية أو أصول عينية مثل العقارات والذهب، وهذا سيؤدي بدوره إلى مزيد من انخفاض قيمة العملة المحلية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى انهيار قيمة العملة ومن ثم الانهيار الاقتصادي، هذا من الناحية الاقتصادية.

لكن من الناحية العملية فدعنا عزيزي القارئ نبسط الأمر، تخيل أن تأتي الحكومة وتعطيك مئة مليون دولار مثلا وتقول لك هذا المال لك يمكنك إنفاقه كما تشاء ومن ثم تفعل المثل مع باقي أفراد الشعب الذي سيطير حتما من الفرحة ويندفع لشراء كل ما يريده و ما لا يريد، ثم ماذا؟ نعم، لا بد أنك استنتجت الأمر بنفسك، لن يكون لدى أحد دافع للعمل فلماذا يستيقظ الفلاح باكرا ليزرع الأرض؟ ولماذا يقف الخباز في هذا الجو الرهيب ليصنع الخبز؟ ولماذا ينحني عامل النظافة الي جمع القمامة من الشارع وقيس على ذلك بقية الوظائف التي لا غني عنها.

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-